نتجول، نجلس في المقاهي، في الساحات، في محطات المسافرين و أمام شاشات الهواتف و عندما نسترق السمع إلى الأحاديث المحيطة بنا في كل مكان تصيبنا الصدمة و نستسلم لليأس…
تسمع أكاديميا مختصا في مجال ما يتحدث مستعملا كلمات مثل أظن…في رأيي…حسب معرفتي…و غيرها
ثم تسمع شخصا آخرا لا علاقة له بالمجال الذي يتحدث فيه يتكلم بثقة و بصيغة الحقائق المطلقة التي لا تقبل أي تفسير مخالف
من أغرب النقاشات التي أسمعها هذه الأيام و التي كنت أظن أنها تقتصر على فئة قليلة متطرفة ثم تأكدت مع الوقت أنها تنتشر مثل النار في الحطب هي :
سمعت إماما في خطبة الجمعة (على اليوتوب) يشرح أن تفسير علم الغرب لسقوط المطر فيه كفر لأن الإسلام يشرح و بالدليل من القرآن و الحديث أن المطر يأتي من فوق السماء السابعة حيث يوجد بحر لا نهاية له من الماء و ما السحاب سوى إسفنجة يتحكم عن طريقها الله في كمية سقوط المطر أما الرعد فهو ملاك يسوق السحاب بعصى من نار كما يسوق الراعي الغنم و أن من يقول بعكس هذا يمكن إعتباره كافرا و….ظننت أن الأمر يتعلق بأراء شاذة لكن أعداد المشتركين و أعداد التعليقات ثم أعداد قنوات اليوتوب التي تسير في نفس النهج تدل على أن الأمر يتعلق بعودة قوية إلى فكر الخرافة(عصر ما قبل التنوير)…
أسمع أينما أذهب النقاشات حول نظرية الأرض المسطحة بعد أن أصبحت هذه النظرية معيارا لدى الكثير من الناس( الذين يتحدثون بثقة و بيقين) لقياس درجة خضوع الآخرين و تقبلهم لمؤامرة نظرية كروية الأرض و من بين أدلتهم حول نظرية هذه المؤامرة هو ظهور مساحة كندا و غريلاند مثلا بشكل أكبر بكثير بالمقارنة مع الدول القريبة من خط من الإستواء و هم طبعا لا يتقبلون تفسير نشر مساحة الكرة على سطح (الخريطة)…
أسمع أيضا نقاشات حول مؤامرة إختراع رقم الصفر و دفاعهم يرتكز حول عدم إمكانية حساب اللاشيئ كما أن الصفر بالنسبة لهم غير موجود في الطبيعة متناسين أن البرمجة و بالثالي كل ما هو موجود من حولنا يعتمد على رقمي الواحد و الصفر (1،0)…
أسمع أيضا نقاشات حول العين، حول السحر و حول الجن و حول الرقية (أرى يوميا طوابير لا تنتهي أمام أحد الرقاة بجانب إحدى المتوسطات فكيف يمكن أن يكون تفكير الأطفال الذين يرون ذلك كل يوم في المستقبل؟)
قد تعتقدون أن الأمر يتعلق بأفكار شاذة مثلما كنت أعتقد أنا لكن الحقيقة أن الأمر يتعلق بعودة و بسرعة مخيفة إلى عصر الظلمات و إلى عصر إعتبار التفكير جريمة بعد أن تصاعدت الأصوات المنادية بفكرة تقديس النقل و محاربة العقل و العودة إلى الماضي المشرق…أو ربما المؤرق؟ لا شيئ في رأيي أخطر على الإنسان من الجهل المقدس
جمال دعموش