ــــ كيف يمكن تحويل الأنقاض إلى مفاقس للأمل؟ ــ

سقطت برلين في 2 ماي 1945 و تحولت كل معالم المدينة إلى أنقاض و لم تبق سوى النساء و المعطوبين بعد سحق كل الرجال تقريبا من قبل آلة الحرب على جبهات القتال، أستسلمت اليابان كذلك في 2 سبتمبر 1945 بعد ضربها بالنابالم و بقنبلتين ذريتين في شهر أوت وتحولت مدينتي هيروشيما و نكازاكي إلى أنقاض

هل توقفت الحياة في كلا البلدين؟ هل بقي الشعب الألماني و الشعب الياباني يبكيان على أطلال ماضي مجيد محملين الدول التي قامت بتدمير بلديهما المسؤولية؟

لقد كان أول ما قام به الشعب الألماني بعد الحرب هو مواجهة الذات و البحث بدقة و بموضوعية لتحديد الأخطاء التي وقع فيها من أجل معالجتها فكان أول ما تم تغييره هو المنظمومة التربوية التي كانت تمجد في مناهجها العرق الآري و الثقافة الجرمانية ، لقد أنتهجت المنظومة الجديدة إحترام و تقبل الآخر المختلف….

حذت اليابان حذو ألمانيا و هكذا بدأت مسيرة الدولتين المنهزمتين في تحويل الهزيمة إلى نجاح بل إلى معجزة إقتصادية فبحلول سنة 1950 وصلت نسبة النمو الصناعي في ألمانيا 25 % و و وصلت نسبة نمو الناتج الخام للفرد في اليابان بين سنتي 1945 و 1956 إلى 7,1 %

وهكذا أصبحت اليابان و ألمانيا ثاني و ثالث إقتصادين في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية لفترة طويلة قبل أن يتجاوزهما إقتصاد الصين

هناك أمثلة أخرى عن العناد و عدم مراجعة الذات و عدم مراجعة الخيارات في كافة المجالات مهما كان الثمن حتى لو وصل الأمر إلى حد التفكك و الإنهيار و يمكن أن نعطي المثال بتجربة يوغوسلافيا السابقة التي كانت دولة فيديرالية يعيش فيها الصرب و السلوفان و الكروات و البوسنيين(المسلمين) و الألبان و بعض الأقليات المجرية و غيرها

بعد موت تيتو و ظهور علامات بداية سقوط المعسكر الشرقي دعى بعض زعماء الكروات و السلوفان إلى تبني دستور جديد يعتمد الكونفديرالية لكن زعماء الصرب رفضوا ذلك، بدأت بعد ذلك الإنهيارات الإقتصادية فوصلت نسبة التضخم إلى مستويات قياسية لا يمكن تصورها و دخلت البلاد في حرب أهلية حتى وصل الأمر إلى حد تبني المارك الألماني كعملة و طنية في يوغوسيلافيا سنة 1994 ( مازالت الثوترات مستمرة إلى غاية الآن في كوسوفو)

في الأخير أظن أن علينا أخذ العبرة من الماضي و من تجارب الشعوب الأخرى، علينا ألا نبقى نبكي على أطلال الماضي، علينا أن نحاول الإنطلاق إلى المستقبل بعد أن نحدد أخطاءنا بعيدا عن العناد و عن الديماغوجيا و الشعبوية، علينا أن نتجنب تعليق كل فشلنا على الإستعمار و على المتآمرين بسبب وقوفنا إلى جانب الحق المطلق

علينا في نظري أن نحاول التأقلم مع المتغيرات السريعة من حولنا ببعض البراغماتية و النسبية بعيدا عن العاطفة و عن الإندفاع و (تغنانت) و إن تطلب الأمر مراجعة مواقفنا التي كنا ننادي أنها ثابثة و غير قابلة للنقاش فعلينا فعل ذلك دون خجل لأننا كلما تأخرنا أكتر كلما كنا أقرب إلى العزلة و إلى التفكك …و إلى الإنهيار

جمال دعموش

ـ العودة إلى الجهل المقدس ــ

نتجول، نجلس في المقاهي، في الساحات، في محطات المسافرين و أمام شاشات الهواتف و عندما نسترق السمع إلى الأحاديث المحيطة بنا في كل مكان تصيبنا الصدمة و نستسلم لليأس…

تسمع أكاديميا مختصا في مجال ما يتحدث مستعملا كلمات مثل أظن…في رأيي…حسب معرفتي…و غيرها

ثم تسمع شخصا آخرا لا علاقة له بالمجال الذي يتحدث فيه يتكلم بثقة و بصيغة الحقائق المطلقة التي لا تقبل أي تفسير مخالف

من أغرب النقاشات التي أسمعها هذه الأيام و التي كنت أظن أنها تقتصر على فئة قليلة متطرفة ثم تأكدت مع الوقت أنها تنتشر مثل النار في الحطب هي :

سمعت إماما في خطبة الجمعة (على اليوتوب) يشرح أن تفسير علم الغرب لسقوط المطر فيه كفر لأن الإسلام يشرح و بالدليل من القرآن و الحديث أن المطر يأتي من فوق السماء السابعة حيث يوجد بحر لا نهاية له من الماء و ما السحاب سوى إسفنجة يتحكم عن طريقها الله في كمية سقوط المطر أما الرعد فهو ملاك يسوق السحاب بعصى من نار كما يسوق الراعي الغنم و أن من يقول بعكس هذا يمكن إعتباره كافرا و….ظننت أن الأمر يتعلق بأراء شاذة لكن أعداد المشتركين و أعداد التعليقات ثم أعداد قنوات اليوتوب التي تسير في نفس النهج تدل على أن الأمر يتعلق بعودة قوية إلى فكر الخرافة(عصر ما قبل التنوير)…

أسمع أينما أذهب النقاشات حول نظرية الأرض المسطحة بعد أن أصبحت هذه النظرية معيارا لدى الكثير من الناس( الذين يتحدثون بثقة و بيقين) لقياس درجة خضوع الآخرين و تقبلهم لمؤامرة نظرية كروية الأرض و من بين أدلتهم حول نظرية هذه المؤامرة هو ظهور مساحة كندا و غريلاند مثلا بشكل أكبر بكثير بالمقارنة مع الدول القريبة من خط من الإستواء و هم طبعا لا يتقبلون تفسير نشر مساحة الكرة على سطح (الخريطة)…

أسمع أيضا نقاشات حول مؤامرة إختراع رقم الصفر و دفاعهم يرتكز حول عدم إمكانية حساب اللاشيئ كما أن الصفر بالنسبة لهم غير موجود في الطبيعة متناسين أن البرمجة و بالثالي كل ما هو موجود من حولنا يعتمد على رقمي الواحد و الصفر (1،0)…

أسمع أيضا نقاشات حول العين، حول السحر و حول الجن و حول الرقية (أرى يوميا طوابير لا تنتهي أمام أحد الرقاة بجانب إحدى المتوسطات فكيف يمكن أن يكون تفكير الأطفال الذين يرون ذلك كل يوم في المستقبل؟)

قد تعتقدون أن الأمر يتعلق بأفكار شاذة مثلما كنت أعتقد أنا لكن الحقيقة أن الأمر يتعلق بعودة و بسرعة مخيفة إلى عصر الظلمات و إلى عصر إعتبار التفكير جريمة بعد أن تصاعدت الأصوات المنادية بفكرة تقديس النقل و محاربة العقل و العودة إلى الماضي المشرق…أو ربما المؤرق؟ لا شيئ في رأيي أخطر على الإنسان من الجهل المقدس

جمال دعموش